لما شع نور الهداية في قلب -فاطمة- قررت أن تسير بخطوات جادة في طريق الحق، راجية من الله أن يهبها الثبات عليه، فكان لابد لها من دوافع تعينها على السير وتشد من أزرها على طريق الخير.
وكادت فاطمة أن تطير فرحاً حينما علمت أن الطريق الذي سلكته عامر بالداعيات النشطات، فهذه مؤسسة للعمل الخيري، وتلك مؤسسة للدعوة إلى الله، وثالثة هنا، ورابعة هناك.
وبإنطلاقة الرغبة في الخير تم لها ما أرادت وتعلمت الكثير من المؤسسة التي وفقها الله للالتحاق بها، وأحست -بحمد الله- ببرد الراحة وبشاشة الإيمان يغمران قلبها النابض بالحماس، ولكن ما هي إلا أشهر معدودات حتى تركت فاطمة العمل الدعوي، وهجرت مؤسستها بل وقررت أن تتقوقع وتنغلق على نفسها، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكنها للأسف أصيبت بأزمة نفسية حادة، كادت أن تضعضع إيمانها وأن تعود بها من حيث أتت، لولا أن تداركتها رحمة الله.
أتعلمون ما سرَّ ذلك؟ وما الذي حل بفاطمة؟ وما سر الأزمة النفسية التي إغتالت وجدانها الحي، وهبت بسموم رياحها على نسمات الإيمان في قلبها؟!
إنه لأمر جد خطير.. إنه الشقاق والخلاف بين منسوبي تلك المؤسسات الدعوية، إنه النقد اللاذع والهادم، الذي كثيراً ما سمعته فاطمة ممن ظنتهن قدوة حسنة يتنزهن عن الغيبة، وظن السوء، ويبرأن من الإساءة إلى الغير.
أخيتي: لقد آثرت البدء بهذا الأمر السلبي، لتتضح لكِ بعض أبعاد هذه الظاهرة، والتي يقتضي الأمر الملح النظر إليها وإلى نتائجها السيئة بين العناية والحذر، وإبراز أضرارها في ساحة العمل الدعوي، لإصلاح الخلل وتقويم الإعوجاج الذي أصاب طريق الدعاة إلى الله، فكانت أن تعثرت بسببه الجهود وقل العطاء ومحقت بركة العمل، وليس هذا بغريب، فهذه سنة الله التي لا تبديل لها، يشرحها قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم...} [التوبة:47].
حيث ترشد الآية الكريمة إلى أن النزاع يوجب أمرين:
تشتت الجمع وذهاب الوحدة، مع ملاحظة المخاطبين في الآية الكريمة من هم؟! إنهم الرعيل الأول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهن الأكثر إخلاصاً والأفضل عملاً.. ويتأكد هذا الملحظ التوجيهي في حجب ليلة القدر عن جميع الأمة بسبب التلاحي والجدل بين شخصين، وإن كان أخفاها في شهر رمضان، فإنظري كيف أن الخلاف لا يقتصر أثره على المتخالفين وحدهم، بل يشمل الأمة بأسرها.
من هنا كان القصد من إبراز هذه الظاهرة في مجال الدعوة للتحذير منها والقضاء عليها، وفي مجال علاج هذه الظاهرة لابد من تحديدها بوضعها مشكلة، ومعرفة أبعادها وأسبابها والآثار السلبية المترتبة عليها، وما يمكن أن يقدم من علاج للقضاء عليها، ولهذا يثار السؤال الآتي: ما المشكلة؟
وللإجابة عن هذا التساؤل أقول: المشكلة تكمن في كثرة النقد غير المنضبط بضوابط بين بعض الدعاة، وقد بلغ حد المشاغبة والتنافس المذموم، مما أدى إلى تصيد الأخطاء والتنفير من المخالف، والسعي إلى تنحيته عن مركز القيادة والإصلاح.
أما العوامل التي أدت إلى تفاقم هذه المشكلة ووضوحها فتكمن في الأسباب الآتية:
أ= أسباب رئيسية: وهي إختلاف المنهج، وإختلاف الوسائل الدعوية.
ب= أسباب فرعية: وهي إتباع الهوى، وتبعية البعض للآخرين حتى ولو كانوا على غير الحق أو الصواب، الأثرة وحب الذات، وحب الظهور على الآخرين.
* نسيان الهدف الأول والمقصد الأسمى الذي قامت من أجله المؤسسة الدعوية، وهو الإصلاح والدعوة إلى الله تعالى.
* تقليد مؤسسات الدعوة للمؤسسات الأخرى في التنافس المذموم.
* الغلو في الأشخاص، فكل طائفة تغالي في تقدير قياداتها وترى أن هذه القيادات قد بلغت حد الكمال، الأمر الذي يؤدي إلى بغض من سواها، والتشويش على كل من يخالفها الرأي.
* سوء الظن بالآخرين، مما يفقد المواقف حسن الإتصال، بالإضافة إلى تصوير الهنّات بصورة الكبائر والزلات التي لا تغتفر.
* عدم التثبت من الأخبار والتساهل في الغيبة.
* إسداء النصيحة مجاهرة وعلى الملأ، مما يحولها في جانبها الآخر إلى فضيحة يضطر معها الآخر إلى الرد بالمثل إنتصاراً للنفس، وإلى مثل هذا يشير الإمام الشافعي رحمه الله بقوله:
تعمدني بنصحك في انفرادِ *** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى إستماعه
أما الآثار السلبية الناتجة عن مثل هذه الأمور فتكمن في:
* أن توجيه النقد المبني على الهوى من طائفة لأخرى لا شك أنه سيقابل بنقد متكلف، يعقبه رد آخر أقوى، وهكذا الأمر الذي يصرف الجهود عن غاياتها ومقاصدها، ويهدر الطاقات، ويوهن العزائم.
* التحزب، وهو مذموم شرعاً، لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...} [آل عمران:103]، لأن الأصل أن كل داعية يبتغي مرضاة الله، ويسعى لنشر الخير والحق، وجميل أن تقوم هذه المؤسسة بمهمة ما وتكمل الأخرى بقية المهام، فالكل في طريق الخير مبتغياً رضوان الله، فإذا دب الخلاف التزم كل فرد خط المواجهة والتصدي للهجمات وأطلت الحزبية برأسها في مؤسسات الأصل فيها التعاون والمضي في طريق الهداية.
* الحزبية والفرقة تورث القلق، مما يؤدي إلى نفور الناس من الدعوة والدعاة، خاصة العوام ومن أقبلوا على الإهتداء بنور العلم حديثاً، لأنهم إنما أقبلوا إلى مؤسسات الدعوة طلباً للأمن وراحة النفس، فإذا إكتشفوا أن التلاحم بين الرواد والدعاة قد تلاشى فقدوا الثقة في القدوة فعادوا أدراجهم إلى حالتهم الأولى.
* مثل هذا الجو من القلق والفرقة قد يؤدي إلى إعتزال البعض للنشاط الدعوي، لأن المبتدئة إذا نفرت من الداعية وفقدت الثقة بها آثرت العُزلة، وهي أمر خطير جداً يفضي إلى أمور سيئة لا تحمد عقباها، ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية».
* ظهور الفكر الأحادي -الناتج عن الحزبية والعزلة- وهو لا يسلم من الزلل، ولا سيما أن صاحب التفكير الأحادي كثيراً ما يغفل الرأي الآخر، حتى وإن كان قد قام على الدليل الصحيح، وما ذلك إلا لأنه توجه خاص بمؤسسة دعوية مخالفة، مهملاً بذلك الإحاطة والاطلاع على الآراء الأخرى الواردة في الموضوع أو القضية.
والأمر الذي يسترعينا الآن ويشدنا: ما هو الحل، وفي المقالة القادمة نقدم بعض الحلول والمقترحات لتجاوز هذه المشكلة بإذن الله..
الكاتب: خيرية بنت عمر موسى.
المصدر: موقع لهَـا أون لآين.